الأدب الإسلامي

 

الجهل سبّة

 [2/2]

 

بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

  

 

  

 

 

       هذا الأمير لم يعش في الصحراء، فيعرف أن الناقة تُضَرَّب، وما يعرفه عن دواب المدينة، هو نزوها؛ والأعرابي كان مؤدبًا، فلم يصححه، وإنما جاء بالجواب صحيحًا، فأدرك الأمير خطأه، فلم يتوان عن أن يضع الكلمة في جمل منوعة، لتستقر في ذهنه، ولم يخجل أن يبين جهله، بل سارع في إضاءة البقعة التي وجدها مظلمة، ويوقد شمعة مكان أخرى مطفأة؛ وفعل هذا لأنه لم يكن جاهلاً .

       وقد يقع الجاهل، الذي يتصنع العلم، في شر فعلته، ويوقع نفسه في الخطأ، لأنه ليس عنده خط دفاع يحميه، وتصنعه العلم، وادعاؤه الفهم، أدى به إلى أن يتسمرئ طرق الجهل، فيسير في أنفاقها المظلمة، وفي القصة الآتية ما قد ينطبق على بطلها في هذه الصفات :

       قال الأصمعي: عن بعض الرواة :

       قلت للشرقي بن القطامي: ما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها؟

       فقال : لا أدري .

       فكذبت له ، فقلت: كانوا يقولون :

ما كنت ولـــواك ولا بـــزونك

رويدك حتى يبعث الحق باعثه

       فإذا به يحدث به في المقصورة يوم الجمعة.(1)

       فإن كان لم يشكف الكذبة فهو جاهل، وإن كان اكتشفها ودلّس على الناس فهو أكثر جهلاً».

       وأظهر علامات الجهل تلك التي تقترن بالغباء، وهو نقص في الطبع، وقصور في الإِدراك، والغبي لا يرى إلا جزءًا من الصورة، يتبع طارقها، ويحتجب عن جانب قد يكون هو الأهم؛ وتصرفه هذا يلفت إليه الناس، ويسمه بعلاقة لا تشرفه، ومن الأمثلة على ذلك القصة الآتية:

       «مرّ قجل من العباد، وعلى عنقه عصا في طرفيها زبيلان قد كادا يحطمانه، في أحدهما برّ، وفي الآخر تراب، فقيل له:

       ما هذا؟

       قال: عدلت البر بهذا التراب، لأنه قد أمالني في أحد جانبي .

       فأخذ رجل زبيل التراب فقلبه، وجعل البر نصفه في الزبيلين ، وقال له :

       احمل الآن .

       فحمله، فلما رآه خفيفًا قال:

       ما أعقلك من شيخ».(2)

       هذه شعبة من شعب الجهل، أساسها نقص الإِدراك لجوانب الأمر المختلفة، وتحديد الذهن على جانب واحد؛ فالرجل يعرف أن معادلة الحمل على الجنبين أفضل من جعل الحمل على جانب واحد، فإن هذا يحني الحامل إلى جهة واحدة، فيتعب بسرعة، وقد يضره الحمل، ففكر في ما أقدم عليه؛ واعتبر الأمر الطبيعي مدهشًا !

       وليس بعيدًا عن هذا الرجل في نقص الإِدراك ما أقدمت عليه امرأة عرفت كيف تحاجي الناس وتراهنهم؛ ولكنها لنقص إدراكها لم تتقن الأمر، وأهملت جانبًا مهمًا، لفت النظر إلى نقص عقلها، وتحقق جهلها:

       «كانت أم عمرو بنت جندب بن عمرو بن جمعه السدوسي عند عثمان بن عفان، وكانت حمقاء، تجعل الخنفساء في فيها، ثم تقول:

       حاجيتك ما في فمي».(3)

       ولا أدري مدى صحة هذه القصة، ولكن هذا وضعها، وهذه صفتها ، إذا صحت !

       وهناك أحمقان جاهلان، انضم إليهما ثالث، فصار أحمق منهما في تعامله معهما، ومع أمرهما، والقصة لا تبعد كثيرًا عما وصف به صاحب البُرِّ والتراب السابقة، في نقص العقل، وإن كان أبطال هذه القصة فازوا بقصب السبق على ذاك الرجل، لأن منطلقهما أساسه ضعيف :

       «اصطحب أحمقان في طريق، فقال أحدهما:

       تعال نتمنى، فإن الطريق يقطع بالحديث .

       فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم، أنتفع برسلها (لبنها)، ولحمها، وصوفها، ويخصب معي رحلي، ويشبع معها أهلي .

       قال الآخر: وأنا أتمنى قطائع ذئاب، أرسلها على غنمك حتى تأتي عليها .

       فقال: ويحك ! أهذا من حق الصحبة ، وحرمة العشيرة ؟

       وتلاحما ، واشتدت الملحمة بينهما؛ فرضيا بأول من يطلع عليهما حكمًا؛ فطلع عليهما شيخ على حمار بين زقين من عسل؛ فحدثاه، فنزل من الحمار، وفتح الزقين حتى سال العسل في التراب، ثم قال:

       صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين».(4)

       ولشدة الغباء وتناهي الحمق ، لا يستطيع المتمعن فيها إلا أن يحكم بأنها مصطنعة؛ وعلى كل حال، فقد مثل مصطنعها الحمق المتناهي بأدق الصور .

       ومن الأمور التي تتسم بالجهل ، تلك الأمور التي لا تتماشى مع ما اعتاد عليه الناس، وتأتي فيها فكاهة تستوجب السخرية، لإِفراط الجهل فيها؛ وشُذوذُها هو الذي لفت إليها النظر، فاستحقت أن تدون، ولو سارت على النهج المستقيم لما كان لها هذه الطرافة، وإليك القصة التي تمثل هذا النوع من الجهل :

       «مدح شاعرٌ محمدَ بن عَبْدُوْس،(5) فقال:

       ما أن أعطيك شيئًا من مالي، ولكن اذهب فاجن جناية حتى لا آخذك بها».(6)

       هذا هو الملجأ الوحيد الذي فكر في الهروب إليه من إعطاء دراهم أو دنانير، وخير منه ما فعله المأمون عندما مدحه مادح بشعر، فأحب أن يداعبه فكافأه بشعر، فجاء بينهما حوار طريف كشف علم الشاعر والمأمون، مثلما كشف تصرف ابن عبدوس جهله وغباءه، إلا إذا كان ابن عبدوس، أو صاحب الشرطة، أراد أن يجبه الشاعر صراحة، فجاء بما جاء به متفقًا مع ما أراده، وما استحقه الموقف .

       وقصة المأمون مع الأعرابي الشاعر كما يلي:

       «حكى «النواجي» في «حلبة الكميت» أن أعرابيًا قصد المأمون وقال له:

       قلت فيك شعرًا .

       قال : أنشده .

       فأنشد:

حياك رب الناس حياكا

إذْ بجمال الوجــــه رقّاكا

بغـداد من نورك أشرقت

وأورق العــود بجــدواكا

       فقال المأمون : يا أعرابي ، وأنا قلت فيك شعرًا ، وأنشد:

حياك رب العــــرش حيــاكا

إن الـــــذي أملت أخــــطاكا

أتيت شخصًا قد خلا كيسه

ولـــو حـــوى شيئًا لأعطاكا

       فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، إن بيع الشعر بالشعر ربًا، فاجعل بينهما شيئًا حتى يستطاب .

       فضحك المأمون، وأمر له بصلة».(7)

       ويأتي الجهل أحيانًا تحت قاعدة: كم من كلمة، قالت لصاحبها: دعني، والثرثرة هي السبيل إلى الزلل، والكلام الذي لا داعي له يوصل صاحبه إلى ما يندم عليه لجهله، ولو علم لعرف أن اختصار الكلام إلى المفيد أسلم، وهذا أمر لايعرفه الجاهل، الذي يفتح فمه للقول قبل أن يكون أعمل الفكرة في ذهنه، ووزنها، وعرف ما يمكن أن يبدي، وما يمكن أن يمسك، والقصة التالية تري مظهرًا من مظاهر الجهل، وهو الكلام اللغو الذي لا يليق أن يقال في حضرة أمير، حتى لو خطرت الفكرة في بال صاحبها، وما كل فكرة تطرق الباب يفتح لها، وما كل مُلحٍ يُنزل على إرادته :

       «نزل النعمان برابية فقال له رجل:

       أبيت اللعن، لو ذُبح رجل أي موضع كان يبلغ دمه من هذه الرابية ؟

       قال: المذبوح والله أنت، ولأنظرن إلى أين يبلغ دمك .

       فقال رجل ممن حضر: رب كلمة تقول لصاحبها : دعني».(8)

       الفكرة التي عرضت لهذا الأحمق فكرة شاذة، ولو علم ما جهل لعلم أن الملوك لا يُسألون، وهم الذين يَسألون من يريدون؛ وما فكر هذا الجاهل، الجاني على نفسه، وما الجواب الذي توقعه؛ إن الحاكم أول ما يطرأ على ذهنه تجاه السؤال عندما يسأل، هو: لو لم يعرف الجواب لظهر جاهلاً أمام من في مجلسه، وهذا ينقص من هيبته، ولهذا لا يستغرب عندما يغضب الحاكم غضبة مضرية، مثلما حدث مع يزيد بن عبد الملك عندما سأله كثير عزة :

       والقصة كما يلي:

       «كان كُثَيِّر يحضر سمر يزيد بن عبدالملك، فقال له ليلة :

       يا أمير المؤمنين . ما يعني الشماخ بقوله :

وقد عَرِقت مغابنها وجادت

بدرتها قـــرى جَحِــنٍ قتيــن

       فقال : وما يضر أمير المؤمنين أن لايعرف ما قاله أعرابيّ بوال على عقبه، هو القراد أشبه خلق الله بك ! وكان «كثيّر» قصيرًا قميئًا دميمًا».(9)

       ومجالسة الملوك والحكام لها آداب، ومن جهلها، أو لم يراعها، يقع في مواقف لا يَحمدها، فالقول في حضرة الحاكم يوزن قبل أن يقال، سواء كان بدءًا أو ردًا على سؤال، أو مشاركة في بحث، أو مساهمة في نقاش. وفي مجلس الحاكم يتبين العارف من الجاهل، وتتباين المعرفة، مثل ما يتباين الجهل، فلكل إنسان درجة. وفي مجلس الحاكم لا يحرص على الانتصار للرأي، وإنما يبحث عن طريق للباقة عند الحرج، للخروج من مأزق وقع فيه الإِنسان، أو طريق رصد له فيه؛ والأمثلة على هذا في التراث كثيرة، ومن الأمثلة الدالة على عدم التوفيق في الرد على ملاحظة ولي عهد خليفة، جاءت من رجل جاهل، لم يحسب للموقف حسابه، أو لم يكن باستطاعته ذلك، لنقص مستوى تفكيره وتدني درجة تقديره، والقصة جرت كالآتي :

       «تغدى رجل عند سليمان بن عبدالملك، وهو يومئذ ولي عهد، وقدامه جدي، فقال له سليمان:

       كل من كليته، فإنهاتزيد في الدماغ .

       فقال: لو كان هذا هكذا كان رأس الأمير مثل رأس البغل».(10)

       وموائد الخلفاء والأمراء ليست للشبع، وملء البطون، ولكنها لنيل الشرف بمؤاكلتهم، ومجالستهم، وما دام الأمر كذلك، فلا يكمل هذا إلا بحسن التحدث إليهم، وجمال الإجابة. ولم يكن ليضر هذا الرجل أن يقول: إني – حفظك الله – لم أر أن هذا أثـّر في رأس فلان . ويختار شخصًا من بين الحاضرين، ممن تصلح معه المداعبة، أو لو وفقه الله للحقيقة لقال: إنها تنفع – حفظك الله – لرأس ، له من الاستعداد الفطري ما يستفيد منه في الخير، فالكلى مثل البذرة إذا لم تجد أرضًا خصبة لم تنبت، وأنا أظن أن رأسي أرض مصخبة، وما نفع رأس الأمير لن يفيد رأسي. وفي هذا مخرج يسر الأمير الذي قَبِل أن يكون على سفرته .

       ويكشف الجهل عن نفسه ، مهما حاول الإِنسان إخفاءه ، بزيف مظهر، أو تعمد غش، فهو يطل برأسه، ويعلن عن نفسه؛ وإذا لم يكن هذا فهو يُكتَشف بأتفه اختبار، وأيسر محاولة، وفي القصة الآتية ما يؤكد هذا :

       «خرج الوليد بن يزيد حاجًا، ومعه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، فكانا ببعض الطريق يلعبان بالشطرنج، فاستأذن عليه رجل من ثقيف، فأذن له، وستر الشطرنج بمنديل، فلما دخل سَلَّمَ، فسأله عن أمور وهنات قال:

       أفتعرف الفقه ؟

       قال : لا .

       قال : أفرويت من الشعر شيئًا؟

       قال : لا .

       قال : أفعلمت من أيام العرب شيئًا؟

       قال : لا .

       قال : فكشف المنديل عن الشطرنج وقال: «شاهك» .

       فقال له عبد الله بن معاوية: يا أمير المؤمنين!

       قال : اسكت ، فما معنا أحد».(11)

       لما سمع الوليد بالاسم، وتدبر الوقت الذي طلب فيه الثقفي الأذن بالدخول، خطر بباله أنه رجل ممن يستحقون الاحترام، لمقامهم وعلمهم، ولم يرد أن يحرجه برؤيته للعبة الشطرنج، فأخفاها.

       ولعله لما رأى هيئته ولباسه أراد أن يتأكد أن تحت هذه الثياب شرفًا، وتحت العمة عالماً نبيلاً، وقد يكون خطر بباله، لفراسة عرضت له، أن الرجل طاووس يزهو فقط بريشه، وأنه لا مخلب عنده ولا منقار، فأخذ يختبره في علوم النبلاء، الذين يستوجبون من الحكام الاحترام، فسأله في الدين فوجد فؤاد أم موسى خاويًا منه، ثم سأله عما يتزين به أهل العصر من رواية الشعر، فوجد عقله خاليًا منه، ثم سأله عن العلم الذي تُزين به المجالس، ويحلو به السمر، وهو التاريخ، وأيام العرب، وما فيها من الشعر، وأخبار البطولة، فنون الشجاعة، وعلوم القبائل، وعادات أهل الصحراء، وتقاليدهم، فوجد أنه صفر اليدين، فوجد أن من أمامه لايستحق الاحترام الذي قدره به عند دخوله، أما اللباس فعارية مؤقتة، وقشر لا لب تحته. فعاد إلى لعب الشطرنج أمام دهشة عبد الله بن معاوية ، فشرح له ما وصل إليه من قرار، مما سمع الحوار فيه .

       وهذه درجة العلم، ورفع شأن المتلبس بها، والمتزين بردائها، والمستفيد من ثمرتها، وهذه قيمة الجاهل، وما يستحقه من عدم احترام .

       ونفشة ريش الطاووس هذه كثيرًا ما تحدث، وقصد الإيهام من بعض الذين يشعرون بنقص تلاحظ في المجتمعات، وتكون أحيانًا من الطرائف، لغرابة مظهرها، ولما يأتي منها مما يلفت النظر، يشد الانتباه، والقصة التالية تمثل ذلك وتشبه في بعض جوانبها القصة التي سبقتها :

       «حَدَّثَ معبد بن خالد العدواني – وكان دميمًا :

       وفدنا، معشر عدوان – على عبد الملك، فقدموا رجلاً مِنّا وَسِيمًا، فقال:

       ممن ؟

       فقال : من عدوان .

       فأنشد :

عذير الحي من عدوا   ن كانوا حية الأرض

بغـى بعضـهم بعـضًا  فلم يرعوا على بعض

ومنهم كانت السادا     ت والموفون بالقرض

       ثم قال له : إيه !

       فقال : لا أحفظها .

       وكنت خلفه ، فقلت :

ومنهم حَكَم يقضي     فلا ينقض ما يقضي

       فقال له : من الحكم ؟

       فقال : لا أدري .

       فقلت : عمر بن الظرب .

       فقال : من قائل الشعر ؟

       قال : لا أدري .

       فقلت : ذو الأصبع .

       فقال : لم قيل له : ذو الأصبع ؟

       قال : لا أدري .

       قلت : نهشته أفعى ، فقطعت أصبعه .

       فقال : ما كان اسمه ؟

       قال : لا أدري .

       قلت : حرثان بن الحارث .

       فقال عبد الملك : كم عطاؤك ؟

       قال : سبع مئة دينار .

       قال لي : في كم أنت ؟

       قلت : في ثلاث مئة .

       فقال : أجعلوا عطاء هذا لهذا، وعطاء هذا لهذا .

       فانصرفت وعطائي سبع مئة، وعطاؤه بثلاث مئة (كذا بالياء) ».(12)

       وبالعلم ثقلت كفة، وبالجهل شالت كفة .

       والأمر الذي يوجب الدهشة إن صدقت الرواية هو أن يظهر القاضي بمظهر جاهل في تصرفه مع الخصوم، فكل أمر يتولاه الخرق والغباء، قد يُقبَل على مضض إلا القضاء، لأن القاضي مؤتمن على الحقوق والأنفس والأعراض، وهي أهم ما على الإِنسان في حياته، فإذا لم يكن عقله بالكفاية التي تجعله أمينًا على عمله الذي يلمس هذه الأمور، فإنه لايصلح أن يكون قاضيًا بحال من الأحوال، والقصة التالية فيها علامة لا تبشر بخير عن هذا القاضي، إذا لم تكن الرواية مختلقة ، اخترعها ساخط على قاض، وألصقها به:

       «أتت جارية أبي ضمضم فقالت :

       إن هذا قبلني .

       فقال : يا فتى، إذعن لها بحقها . قَبِّليه – عافاك الله – كما قبلك، فإن الله يقول: والجروح قصاص».(13)

       ويتبين الجهل أحيانًا بإقرار المتصف به، دون أن يدري أنه أَقَرَّ بنفسه، وهذا يجعل الجهل ذا شعب، لأن الجاهل في هذه الحال لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، ويفضحه سؤاله كما حدث في القصة الآتية:

       «قال رجل لخالد بن صفوان :

       ما في إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليّ النوم ؟

       قال : لأنك حمار في مسلاخ إنسان».(14)

       هذا رجل عنده داء ولا يدري، ويسأل الآخرين ليخبروه عن نفسه، وجهله يتماشى مع جهل الذي شكى إلى الطبيب من معاناته من معدته، وأنه إذا جاع أحس كأن بقرة بلسانها الأحرش تلعق معدته، فإذا أكل زال هذا عنه، فطلب الطبيب من الله أن يصيبه بمثل دائه، لأن هذا ليس داءً، وإنما هو العافية، وقوة الشهية عند الاحساس بالجوع، وهو يزول مع الشبع. كلا الرجلين يشكو للآخرين ما هو فيه دون أن يدري ما كنهه، فيُخْبَرُ بما فيه . وما حقيقته !

       وننتقل إلى قصةٍ أحد طرفيها أعرابي، وقصص الأعراب يشجع على تدوينها طرافتها، وهي ذات صفتين، إما صفة ذكاء، أو صفة غباء، وفي القصة الآتية سوف نرى أن الأعرابي غلب بالحجة والمنطق عامل الخليفة، وألجمه بحجة ذكية، ولعل الغرور، والتهاون بالأعرابي هو الذي أدى إلى هزيمة العامل :

       «قال بعض العمال لأعرابي: ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلة !

       فقال : أرأيتك أن أنبأتك بذلك تجعل لي عليك مسألة ؟

       قال : نعم :

       قال الأعرابي :

إن الصلاة أربع وأربع         ثم ثلاث بعدهن أربع

ثم صلاة الفجر لا تضيع

       قال : قد صدقت ، فسل .

       قال : كم فقار ظهرك ؟

       قال : لا أدري .

       قال : أفتحكم بين الناس، وأنت تجهل هذا في نفسك؟! » (15)

       ويأتي الدواء أحيانًا من الجاهل بالداء، فبدلاً من أن يهنئ يعزي، وبدلاً من أن يحسن يسيء، ويخطئ من حيث أراد الصواب، ويَصِم من حيث أراد أن يُبَرِّئ؛ جهله يخجل من حوله أكثر من أن يخجله، لأنه جاهل لايدري مدى جرح كلماته، ولا عمق الندوب التي تتركها ألفاظهن؛ والقصة الآتية مثال صادق على ذلك :

       «دخل أبو عتاب على عمرو بن هدّاب، وقد كفّ بصره، والناس يعزونه . فقال :

       يا أبا زيد، لا يسوءنّك ذهابهما، فإنك لو رأيت ثوابهما في ميزانك تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك، ودق ظهرك».(16)

       أبو عتاب بجهله، وقلة عقله، وبلادة ذهنه، لم يوفق لحسن التعزية، ولم يُجِد تخفيف الألم عن عمرو ابن هداب، وأوقف ذهنه جامدًا على أمر وقع عليه، فأخذ يكرر أمر الثواب، ولأن الثواب جميل نسي معه الآلام التي عَرَّض الرجل لها، ولابد أنه تصور أن المريض مُعْجَب هو وزواره بهذا القول السخيف، والرأي المبتعد عن الصواب، والذوق المتدني .

       ويقل العقل، ويسيطر الجهل أحيانًا، فيتصرف المرء مسوقًا بالحمق، فيدخل في الخطأ دون أن يدري، أو لعله يدري، ولكن جهله يهيء له الخطأ صوابًا، والقبح حسنًا، ولا يوقظه من سباته، وينبهه من سدرة الجهل، إلا هزة عنيفة، تغير وجهة فكره، فيرى معها ما لم يره قبلها :

       «ضجر أعرابي من كثرة العيال، وبلغه أن الوباء بخيبر شديد، فخرج إليه بعياله، يعرضهم للموت، وقال:

قلت لحمّى خيـــبر استعـــدّي

هاك عيالي فاجهدي وجدّي

وبــــاكــــري بصــالب وورد

أعــــــانـــك الله على ذا الجند

       فأخذته الحمّى ، فمات وبقي عياله».(17)

       لقد اجتمع لهذا الرجل مع الحمق والجهل قلةُ الدين، وروح الإِجرام، وشذوذ العقل .

       ومن الطرائف التي ترد في التراث عن جهل بعض الناس فيما لايتوقع أن يتطرق إليه الجهل القصة الآتية :

       قال أبو الحسن :

       جاء قوم إلى رجل من الوجوه، فقالوا له :

       مات جارك فلان، فمر لنا بكفن .

       فقال : ما عندنا اليوم شيء، ولكن تعودون.

       قالوا : أفنملحه إلى أن يتيسر عندك شيء؟!».(18)

       وحجاب الخلفاء، وبوابوهم، يأتي بينهم جهلة، وهم يختارون أحيانًا على أن تتوفر فيهم هذه الصفة، وتعتبر في عملهم ميزة، لأنهم لا يهمهم ما يقال فيهم، وهم ينفذون الأوامر بدقة متناهية، ولا يهمهم إلا سيدهم، وطاعته طاعة عمياء عندهم، ومن منهم يظهر روح تسامح أو تهاون يتعرض للأذى والعزل. وللمأمون بواب فيه هذه الصفة، وله قصة طريفة تدل على جهله، بشهادة المأمون، وبحكمه عليه، وهو خير من يعرفه، والقصة كما يلي :

       «كان أحمد بن يوسف، وناس، ويختلفون إلى باب المأمون، فقال البواب يومًا :

       يا هؤلاء، كم تقفون هاهنا! اختاروا واحدة من ثلاث: إما ميزتم لوقوفكم ناحية من الباب، وإما نزلتم، فجلستم في المسجد، حتى يدعى بكم.

       قالوا: والخصلة الثالثة ؟

       فما تهيأ له ، فقال :

       جئتمونا بكلام الزنادقة ؟

       فدخل أحمد، فحدث المأمون، فضحك المأمون، وأمر للبواب بألف درهم ، وقال:

       لولا أنها نادرة جهل لاستحق بها أكثر من ذلك».(19)

       ويأتي الجهل أحيانًا واضحًا في طلب الفتوى، فيكشف السائل عن جهل، خاصة إذا كان الأمر المستفتى عنه ليس مما اعتاد الناس على التعامل فيه، وليس له جانب عملي إلا في الخيال؛ ومن أمثلة ذلك سؤال رجل الشعبَّي: عن أكل الذئاب .

       فقال : إن اشتهيت فكله .

       أو سؤال آخر له : عن أكل لحم الشيطان .

       فقال : ويحك، ويدعُك الشيطان تأكل لحمه؟ إرض منه بالكفاف! (20)

       لم يرد الشعبي أن يبعد في جوابه عن جواب أبي حنيفة: «يمد أبو حنيفه رجله ولا يبالي»!

       والعقل ينقذ الإِنسان من الجهل، ويأتي لنجدته، ليضيء البقعة الداكنة في ذهنه، ويقضي على الجزء من الجهل الذي كان عنده، فعلم المرء وعقله كفيلان بأن لا يدعا للجهل مكانًا، ولهذا لما أدرك أحد العقلاء أنه لايجيد التعبير عن المطر ونزولهِ، وتراكم سحبه وغيومه، أمده الله بفكر نَيّر حتى يسأل، ويتثقف في هذا الجانب، ويتعب نفسه ويجهدها حتى يصل إلى غايته، وما خيب الله أمله، بل أعطاه ملء كفيه:

       «قال الوليد بن سريع، مولى عمر بن حريث:

       وجهني الجراح بن عبد الله من العراق إلى سليمان ابن عبد الملك، فخفت أن يسألني عن المطر؛ فإني لأسير بالسماوة إذ أنا بأعرابي من كلب في شملة، فقلت : يا أعرابي هل لك في درهمين ؟

       قال : إني والله حريص عليها، فما سببها ؟

       قلت له : تصف لي المطر .

       قال : أتعجز أن تقول :

       أصابتنا سماء تَعَقَّد منها الثرى ، واستأصل منها العِرق، وامتلأت منه الحفر، وقاءت منه الغدران، وكنت في مثل وِجار الضبع حتى وصلت إليك .

       فلما قدمت على سليمان، قال:

       هل كان من ورائك من غيث؟

       فقلت ذلك .

       فضحك، وقال: هذا كلام ما أنت بأبي عذره .

       فقلت : صدق فوك، يا أمير المؤمنين، اشتريته والله بدرهمين، فضحك، وقال :

       أصبت وأحسنت .

       فأمر بجائزتي، ثم زادني ألفي درهم مكان الدرهمين».(21)

       هذا رجل جَهِل وطلب العلم بالعقل، فأدركه، وفاء عليه بفضل عميم .

       ويجتمع العقل والجهل في قصة واحدة، العقل والعلم زرعهما الدين الإِسلامي، باشراق نوره، وتلألؤ جوهره؛ والجهل نبت في أيام الجاهلية في رؤوسٍ جوفاء يخيم فيها الغباء، ويعشش فيها عنكبوت الجهل، والقصة يمثلها النص الآتي :

       «قال الجاحظ :

       لما هدم خالد بن الوليد العزى رمته بالشرر حتى أحرقت عامة فخذه».

       وقال الجاحظ :

       وما أشك أنه كان للسدنة حيلة وكمين .

       ولو رأيت ما للهند من بيوت عباداتهم من هذه المخاريق لعلمت أن الله قد منّ على المسلمين.

       وقال صاحب ربيع الأبرار:

       وذكر الجاحظ احتيال رهبان كنيسة الرها بمصابيحها، حتى أن زيت قناديلهم يتوقد من غير نار في بعض ليالي أعيادهم».(22)

       فلقرون وقرون دَجْلُ سدنةِ العُزَّى يمضى على الناس، ويأخذونه بالقبول، والاندهاش، ولم يبأسوا من بقائها حتى في اللحظة التي لفظت العزى فيها أنفاسها، وجاء خالد على آخر أمل لهم في حياة مصدر رزقهم، ومحط دجلهم، ولكن خالد بنور الايمان لم يتوان عن القيام بواجبة تجاه تصفية بلاد المسلمين من أصنام الشرك، ونصب الكفر.

       والجاحظ بإيمانه أدان ماهو مثل هذه الخرافة، وما معها من خزعبلات سدنة معابد الهند، وكنائس النصارى، والحيل التي يتحصنون خلفها، وفي تقوية مظهر أديانهم .

       والجهل أحيانًا يتخذه الكتاب مجالاً للقصص يضعــونها ، ويتفـكهـــون بها، ويطربون بها الناس ، والوضع فيها بين ، والتكلف ظاهر، ولكن لطرافتها بقيت ، ولم يجهد الناس أنفسهم لنقدها ، وإظهار زيفها ، ومن هذه القصص القصة التالية:

       «عن الأصمعي :

       اختصمت الطفاوة، وبنو راسب، في رجل يدعيه الفريقان، إلى ابن عرباض، فقال:

       الحكم بينكم أبين من ذلك، يلقى في النهر، فإن طفا فهو لطفاوة، وإن رسب فهو لبني راسب».(23)

       والذي جاء بالقصة أوهم أنها حقيقة، وأن الحكم جاهل في حكمه، وقد تموت بسببه نفس، وقد يطفو إن كان راسبيًا، ويرسب إن كان طفاويًا، فالحكم أساسه ضعيف، لأنه اعتمد على اللفظ، والأمر يحتاج إلى مدلول شرعي، أو على كفيء في علم القيافة .

       وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَه نُورًا فَمَا لَه مِنْ نُورٍ(24)، وهنــاك من نــزع الله من صــدورهم نــور البصيــرة ، فهم في جهلهم ينتقلون من خطأ إلى خطأ ، وينطبق هذا على من صفتهم مثل صفة الـرجل الــذي وصفــه آخــر ، وكان متدبــرًا لأمره ، فقال:

       «كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: يسمع غير ما يقال، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب غير ما يحفظ، ويحدث بغير ما يكتب».(25)

       وهذا على نقيض ما قال يحيى بن خالد عن أولئك الذين يسيرون بهدي من الله، بنور وبصيرة، وسداد رأي، ورجاحة عقل :

       قال يحيى بن خالد :

       «الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون ، ويتحدثون بأحسن ما يحفظون».(26)

       ونختم قولنا عما رأيناه من لفائف الجهل، وما مر بنا من تنوع أخبار الجهلاء، وتعدد شعب الجهل معهم، وهي شعب لا يكاد الحصر يحصيها، بمجلس لمسلمة بن عبد الملك، دار فيه حديث مفيد، ومدح فيه مسلمة علم شخص، مسح جهل آخرين وعبر عن ذلك برسم جميل، وصورة مبتدعة.

       «تكلم جماعة من الخطباء عند مسلمة بن عبدالملك، فأسهبوا في القول، ثم اقترح المنطق منهم رجل من أخريات الناس، فجعل لايخرج من حسن إلا إلى أحسن منه، فقال مسلمة :

       ما شبهت كلام هذا بعقب كلام هؤلاء إلا بسحابة لبّدت عجاجًا».(27)

*  *  *

الهوامش:

 

(1)         ربيع الأبرار : 1/646 .

(2)         عيون الأخبار : 2/46 .

(3)         عيون الأخبار : 2/46 .

(4)         ربيع الأبرار : 1/655 .

(5)     كان حاجبًا للوزير علي بن عيسى الوزير، ثم صار حاجبًا للوزير حامد بن العباس في خلافة المقتدر بالله. وروى صاحب الكشكول أن الممدوح صاحب شرطة، وهو أقرب للقبول، لأنه يملك ما وعد به، وأقرب إلى الجهل من الوزير. الكشكول 2/303 .

(6)         ربيع الأبرار : 1/758 .

(7)         رحلة الشتاء والصيف : 157 .

(8)         البصائر: 4/202 .

(9)         آداب الملوك : 300، والأغاني : 9/167 .

(10)     عيون الأخبار : 2/57 .

(11)     عيون الأخبار: 2/136، وربيع الأبرار: 1/636 .

(12)     ربيع الأبرار : 1/641 .

(13)     عيون الأخبار : 2/69 .

(14)     عيون الأخبار : 2/136 ، وربيع الأبرار: 1/630 .

(15)     عيون الأخبار: 2/73 .

(16)     عيون الأخبار: 2/57 .

(17)     البصائر : 4/201 .

(18)     عيون الأخبار: 2/70 .

(19)     البصائر : 7/108 .

(20)     البصائر: 7/108 .

(21)     ربيع الأبرار: 1/152، قارن هذا بما جاء في «مجالس ثعلب»: 1/283 .

(22)     ربيع الأبرار : 1/182 .

(23)     عيون الأخبار : 2/71 .

(24)     سورة النور ، الآية : 40 .

(25)     عيون الأخبار : 2/146 .

(26)     عيون الأخبار : 2/146 .

(27)     البيان والتبيين : 2/79 .

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية 1428هـ = مايو – يوليو  2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.